فصل: تفسير الآية رقم (53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

الواو استئنافية كما هي في نظائره‏.‏ والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّ السامع لمَّا شعر بقصّة أومأ إليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ الآية يأخذه العجب من كبرياء عظماء أهل الشرك وكيف يرضَوْن البقاء في ضلالة تكبّراً عن غشيَان مجلس فيه ضعفاء الناس من الصالحين، فأجيب بأنّ هذا الخلق العجيب فتنة لهم خلقها الله في نفوسهم بسوء خلُقهم‏.‏

وقعت هذه الجملة اعتراضاً بين الجملتين المتعاطفتين تعجيلاً للبيان، وقرنت بالواو للتنبيه على الاعتراض، وهي الواو الاعتراضية، وتسمَّى الاستئنافية؛ فبيَّن الله أنّ داعيهم إلى طلب طردهم هو احتقار في حسد؛ والحسد يكون أعظم ما يكون إذا كان الحاسد يرى نفسه أولى بالنعمة المحسود عليها، فكان ذلك الداعي فتنة عظيمة في نفوس المشركين إذ جمعتْ كبراً وعُجباً وغروراً بما ليس فيهم إلى احتقار للأفاضل وحسد لهم، وظلم لأصحاب الحق، وإذ حالت بينهم وبين الإيمان والانتفاع بالقرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم

والتشبيه مقصود منه التعجيب من المشبّه بأنَّه بلغ الغاية في العجب‏.‏

واسم الإشارة عائد إلى الفتون المأخوذ من «فتنّا» كما يعود الضمير على المصدر في نحو ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏، أي فتنّا بعضهم ببعض فتوناً يرغب السامع في تشبيهه وتمثيله لتقريب كنهه فإذا رام المتكلّم أن يقرّبه له بطريقة التشبيه لم يجد له شبيهاً في غرائبه وفظاعته إلاّ أن يشبّهه بنفسه إذ لا أعجب منه، على حدّ قولهم‏:‏ والسفاعة كاسمها‏.‏

وليس ثمّة إشارة إلى شيء متقدّم مغاير للمشبّه‏.‏ وجيء باسم إشارة البعيد للدلالة على عظم المشار إليه‏.‏ وقد تقدّم تفصيل مثل هذا التشبيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

والمراد بالبعض المنصوب المشركون فهم المفتونون، وبالبعض المجرور بالباء المؤمنون، أي فتنَّا عظماءَ المشركين في استمرار شركهم وشِرْك مقلِّديهم بحال الفقراء من المؤمنين الخالصين كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏لِيَقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏ فإنّ ذلك لا يقوله غير المشركين، وكما يؤيِّده قوله تعالى في تذييله ‏{‏أليس الله بأعلمَ بالشاكرين‏}‏‏.‏

والقول يحتمل أن يكون قولاً منهم في أنفسهم أو كلاماً قالوه في مَلئهم‏.‏ وأيّاً ما كان فهم لا يقولونه إلاّ وقد اعتقدوا مضمونه، فالقائلون ‏{‏أهؤلاء مَنّ الله عليهم‏}‏ هم المشركون‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليقولوا‏}‏ لام التعليل، ومدخولها هو أثرُ العلّة دالّ عليها بعد طيِّها على طريقة الإيجاز‏.‏ والتقدير‏:‏ فتنَّاهم ليَرَوْا لأنفسهم شفوفاً واستحقاقاً للتقدّم في الفضائل اغتراراً بحال الترفّه فيعجبوا كيف يُدعى أنّ الله يمنّ بالهدى والفضل على ناس يرونهم أحطّ منهم، وكيف يُعَدّونهم دونَهم عند الله، وهذا من الغرور والعُجب الكاذب‏.‏ ونظيره في طيّ العلَّة والاقتصار على ذكر أثرها قول إياس بن قبيصة الطائي‏:‏

وأقدمتُ والخَطِّيُّ يَخطِرُ بَيْنَنَا *** لأعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا من شُجاعها

أي ليظهر الجَبَان والشجاع فأعلَمَهُمَا‏.‏

والاستفهام مستعمل في التعجّب والإنكار، كما هو في قوله ‏{‏أألقي الذكرُ عليه من بيننا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 25‏]‏‏.‏ والإشارة مستعملة في التحقير أو التعجيب كما هي في قوله تعالى حكاية عن قول المشركين ‏{‏أهذا الذي يذكر آلهتكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأنبياء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لقصد تقوية الخبر‏.‏

وقولهم‏:‏ مَنّ الله عليهم‏}‏ قالوه على سبيل التهكّم ومجاراة الخصم، أي حيث اعتقد المؤمنون أنّ الله منّ عليهم بمعرفة الحق وحَرم صناديد قريش، فلذلك تعجَّب أولئك من هذا الاعتقاد، أي كيف يُظنّ أنّ الله يمنّ على فقراء وعبيد ويترك سادة أهل الوادي‏.‏ وهذا كما حكى الله عنهم ‏{‏وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وهذه شنشنة معروفة من المستكبرين والطغاة‏.‏ وقد حدث بالمدينة مثل هذا‏.‏ روى البخاري أنّ الأقرع بن حابس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّما بايعَك سُرّاقُ الحجيج مِنْ أسْلَمَ وغِفار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة فقال له رسول الله‏:‏ أرأيْتَ إنْ كانت أسْلَمُ وغِفَارُ ومزينةُ وجهينةُ خيراً من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفانُ أخابوا وخسروا ‏(‏أي أخاب بنو تميم ومن عُطف عليهم‏)‏ فقال‏:‏ نعم قال‏:‏ فَوالذي نفسي بيده إنّهم لَخير منهم‏.‏

وفي الآية معنى آخر، وهو أن يكون القول مضمراً في النفس، وضميرُ ‏{‏ليقولوا‏}‏ عائداً إلى المؤمنين الفقراء، فيكونوا هم البعض المفتونين، ويكون البعض المجرور بالباء صادقاً على أهل النعمة من المشركين، وتكون إشارة ‏{‏هؤلاء‏}‏ راجعة إلى عظماء المشركين ويكون المراد بالمَنّ إعطاء المال وحُسْن حال العيش، ويكون الاستفهام مستعملاً في التحيّر على سبيل الكناية، والإشارةُ إلى المشركين معتبر فيها ما عرفوا به من الإشراك وسوء الاعتقاد في الله‏.‏ والمعنى‏:‏ وكذلك الفتوننِ الواقع لِعظماء المشركين، وهو فتون الإعجاب والكبرياء حين ترفّعوا عن الدخول فيما دخل فيه الضعفاء والعبيد من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته استكباراً عن مساواتهم، كذلك كان فتون بعض آخر وهم بعض المؤمنين حين يشاهدون طيب عيش عظماء المشركين في الدنيا مع إشراكهم بربِّهم فيعجبون كيف منّ الله بالرزق الواسع على من يكفرون به ولم يمُنّ بذلك على أوليائه وهم أولى بنعمة ربِّهم‏.‏ وقد أعرض القرآن عن التصريح بفساد هذا الخاطر النفساني اكتفاء بأنَّه سمَّاه فتنة، فعلم أنّه خاطر غير حقّ، وبأنّ قوله‏:‏ ‏{‏أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ مشير إلى إبطال هذه الشبهة‏.‏ ذلك بأنَّها شبهة خلطت أمر شيئين متفارقين في الأسباب، فاشتبه عليهم الجزاء على الإيمان وما أعدّ الله لأهله من النعيم الخالد في الآخرة، المترتِّب عليه ترتّب المسبّب على السبب المجعول عن حكمة الله تعالى، بالرزق في الدنيا المترتِّب على أسباب دنيوية كالتجارة والغزو والإرث والهبات‏.‏

فالرزق الدنيوي لا تسبّب بينه وبين الأحوال القلبية ولكنّه من مسبّبات الأحوال الماديَّة فالله أعلم بشكر الشاكرين، وقد أعدّ لهم جزاء شكرهم، وأعلمُ بأسباب رزق المرزوقين المحْظوظين‏.‏ فالتخليط بين المقامين من ضعف الفكر العارض للخواطر البشرية والناشئ عن سوء النظر وترك التأمّل في الحقائق وفي العلل ومعلولاتها‏.‏ وكثيراً ما عرضت للمسلمين وغيرهم شُبه وأغلاط في هذا المعنى صرفتهم عن تطلّب الأشياء من مظانّها وقعدت بهم عن رفْو أخْلالهم في الحياة الدنيا أو غرّتْهُم بالتفريط فيما يجب الاستعداد له كل ذلك للتخليط بين الأحوال الدينية الأخروية وبين السنن الكونية الدنيوية، كما عرض لابن الراوندي من حيرة الجهل في قوله‏:‏

كَمْ عالممٍ عَالم أعْيَتْ مذاهبُه *** وجَاهللٍ جاهللٍ تلقّاه مرزوقاً

هَذا الذي ترك الأوْهَامَ حائِرَةً *** وصَيَّرَ العالم النِّحْرير زنديقاً

ولا شكّ أنّ الذين استمعوا القرآن ممّن أنزل عليه صلى الله عليه وسلم قد اهتدوا واستفاقوا، فمن أجل ذلك تأهَّلوا لامتلاك العالم ولاَقُوا‏.‏

و ‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله ‏{‏مِنْ بيننا‏}‏ ابتدائية‏.‏ و‏(‏بين‏)‏ ظرف يدلّ على التوسّط، أي مَنّ الله عليهم مختاراً لهم من وسطنا، أي منّ عليهم وتركنا، فيؤول إلى معنى من دوننا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أليس الله بأعلمَ بالشاكرين‏}‏ تذييل للجملة كلّها، فهو من كلام الله تعالى وليس من مقول القول، ولذلك فصل‏.‏ والاستفهام تقريري‏.‏ وعديّ ‏{‏أعلَمَ‏}‏ بالباء لأنَّه بصيغة التفضيل صار قاصراً‏.‏ والمعنى أنّ الله أعلم بالشاكرين من عباده فلذلك منّ على الذين أشاروا إليه بقولهم‏:‏ ‏{‏أهؤلاء مَنّ الله عليهم‏}‏ بمنَّة الإيمان والتوفيق‏.‏

ومعنى علمه تعالى بالشاكرين أنَّه أعلم بالذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستجيبين لدعوته بقريحة طالبين النجاة من الكفر راغبين في حسن العاقبة، فهو يلطف بهم ويسهِّل لهم الإيمان ويحبِّبه إليهم ويزيّنه في قلوبهم ويزيدهم يوماً فيوماً تمكّناً منه وتوفيقاً وصلاحاً، فهو أعلم بقلوبهم وصدقهم من الناس الذين يحسبون أنّ رثاثة حال بعض المؤمنين تطابق حالة قلوبهم في الإيمان فيأخذون الناس ببزّاتهم دون نيَّاتهم‏.‏ فهذا التذييل ناظر إلى قوله‏:‏ ‏{‏إنّما يستجيب الذين يسمعون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏‏.‏

وقد عُلم من قوله‏:‏ ‏{‏أليس الله بأعلم بالشاكرين‏}‏ أنَّه أيضاً أعلم بأضدادهم‏.‏ ضدّ الشكر هو الكفر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم لأزيدنَّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 7‏]‏ فهو أعلم بالذين يأتون الرسول عليه الصلاة والسلام مستهزئين متكبِّرين لا هَمّ لهم إلاّ تحقير الإسلام والمسلمين، وقد استفرغوا وسعهم ولبّهم في مجادلة الرسول صلى الله عليه وسلم وتضليل الدهماء في حقيقة الدين‏.‏ ففي الكلام تعريض بالمشركين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

عطف على قوله ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربّهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ وهو ارتقاء في إكرام الذين يدْعون ربَّهم بالغداة والعشي‏.‏ فهم المراد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون بآياتنا‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏يؤمنون بآياتنا‏}‏ أنَّهم يوقنون بأنّ الله قادر على أن ينزّل آيات جمَّة‏.‏ فهم يؤمنون بما نزّل من الآيات وبخاصّة آيات القرآن وهو من الآيات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فقل سلام عليكم‏}‏ قيل‏:‏ معناه حَيِّهم بتحيَّة الإسلام، وهي كلمة ‏(‏سلام عليكم‏)‏، وقيل‏:‏ أبلغهم السلام من الله تعالى تكرمة لهم لمضادّة طلب المشركين طردَهم‏.‏

وقد أكرمهم الله كرامتين الأولى أن يبدأهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام حين دخولهم عليه وهي مزيَّة لهم، لأنّ شأن السلام أن يبتدئه الداخل، ثم يحتمل أنّ هذا حكم مستمرّ معهم كلّما أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنّه للمرّة التي يبلّغهم فيها هذه البشارة، فنزّل هو منزلة القادم عليهم لأنَّه زفّ إليهم هذه البشرى‏.‏

والكرامةُ الثانية هي بشارتهم برضى الله عنهم بأنّ غفر لهم ما يعملون من سوء إذا تابوا من بعده وأصلحوا‏.‏ وهذا الخبر وإن كان يعمّ المسلمين كلّهم فلعلّه لم يكن معلوماً، فكانت البشارة به في وجوه المؤمنين يومئذٍ تكرمة لهم ليكونوا ميموني النقيبة على بقية إخوانهم والذين يجيئون من بعدهم‏.‏

والسلام‏:‏ الأمان، كلمة قالتها العرب عند لقاء المرء بغيره دلالة على أنَّه مسالم لا مُحارب لأنّ العرب كانت بينهم دماء وتِرات وكانوا يثأرون لأنفسهم ولو بغير المعتدي من قبيلته، فكان الرجل إذا لقي من لا يعرفه لا يأمن أن يكون بينه وبين قبيلته إحَن وحفائظ فيؤمِّن أحدهما الآخر بقوله‏:‏ السلام عليكم، أو سلام، أو نحو ذلك‏.‏ وقد حكاها الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ثم شاع هذا اللفظ فصار مستعملاً في التكرمة‏.‏ ومصدر سلَّم التسليم‏.‏ والسلام اسم مصدر، وهو يأتي في الاستعمال منكّراً مرفوعاً ومنصوباً؛ ومعرّفاً باللام مرفوعاً لا غير‏.‏ فأمَّا تنكيره مع الرفع كما في هذه الآية، فهو على اعتباره اسماً بمعنى الأمان، وساغ الابتداء به لأنّ المقصود النوعية لا فرد معيّن‏.‏ وإنّما لم يقدّم الخبر لاهتمام القادم بإدخال الطمأنينة في نفس المقدوم عليه، أنَّه طارق خير لا طارق شرّ‏.‏ فهو من التقديم لضرب من التفاؤل‏.‏ وأمَّا تعريفه مع الرفع فلدخول لام تعريف الجنس عليه‏.‏

وكلمة ‏(‏على‏)‏ في الحالتين للدلالة على تمكّن التلبّس بالأمان، أي الأمان مستقرّ منكم متلبِّس بكم، أي لا تخف‏.‏

وأمّا إن نصبوا مع التنكير فعلى اعتباره كمصدر سلم، فهو مفعول مطلق أتى بدلاً من فعله‏.‏ تقديره‏:‏ سلّمت سلاماً، فلذلك لا يؤتى معه ب ‏(‏على‏)‏‏.‏

ثم إنَّهم يرفعونه أيضاً على هذا الاعتبار فلا يأتون معه ب ‏(‏على‏)‏ لقصد الدلالة على الدوام والثبات بالجملة الاسمية بالرفع، لأنَّه يقطع عنه اعتبار البدلية عن الفعل ولذلك يتعيّن تقدير مبتدأ، أي أمرُكم سلام، على حدّ ‏{‏فصبر جميل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 18‏]‏‏.‏ والرفع أقوى، ولذلك قيل‏:‏ إنّ إبراهيم ردّ تحيَّة أحسن من تحية الملائكة، كما حكي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سلاماً قال سلام‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وقد ورد في ردّ السلام أن يكون بمثل كلمة السلام الأولى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 26‏]‏ وورد بالتعريف والتنكير فينبغي جعل الردّ أحسن دلالة‏.‏ فأمَّا التعريف والتنكير فهما سواء لأنّ التعريف تعريف الجنس‏.‏ ولذلك جاء في القرآن ذكر عيسى ‏{‏وسلام عليه يوم ولد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 15‏]‏ وجاء أنَّه قال‏:‏ ‏{‏والسلامُ عليَّ يوم وُلدت‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏كتب ربّكم على نفسه الرحمة‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وهي أول المقصود من المقول، وأمَّا السلام فمقدّمة للكلام‏.‏ وجوّز بعضهم أن تكون كلاماً ثانياً‏.‏ وتقدّم تفسير نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب على نفسه الرحمة ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة‏}‏ في هذه السورة ‏[‏12‏]‏‏.‏ فقوله هنا كتب ربُّكم على نفسه الرحمة‏}‏ تمهيد لقوله‏:‏ ‏{‏أنَّه مَنْ عَمِلَ منكم سوءاً بجهالة‏}‏ الخ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أنَّه من عمل منكم سوءاً بجهالة‏}‏ قرأه نافع، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب بفتح الهمزة على أنَّه بدل من ‏{‏الرحمة‏}‏ بدلُ اشتمال، لأنّ الرحمة العامَّة تشتمل على غفران ذنب من عمل ذنباً ثم تاب وأصلح‏.‏ وقرأه الباقون بكسر الهمزة على أن يكون استئنافاً بيانياً لجواب سؤال متوقّع عن مَبلغ الرحمة‏.‏ ‏(‏ومَنْ‏)‏ شرطية، وهي أدلّ على التعميم من الموصولة‏.‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بجهالة‏}‏ للملابسة، أي ملتبساً بجهالة‏.‏ والمجرور في موضع الحال من ضمير ‏{‏عَمل‏}‏‏.‏

والجهالة تطلق على انتفاء العلم بشيء مَّا‏.‏ وتطلق على ما يقابل الحلم، وقد تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏‏.‏ والمناسب هنا هو المعنى الثاني، أي من عمل سوءاً عن حماقة من نفسه وسفاهة، لأنّ المؤمن لا يأتي السيّئات إلاّ عن غلبة هواه رُشدَه ونُهاه‏.‏ وهذا الوجه هو المناسب لتحقيق معنى الرحمة‏.‏ وأمَّا حمل الجهالة على معنى عدم العلم بناء على أنّ الجاهل بالذنب غير مؤاخذ، فلا قوة لتفريع قوله‏:‏ ثم تاب من بعده وأصلح‏}‏ عليه، إلاّ إذا أريد ثم تفطَّن إلى أنّه عمل سوءاً‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ بعده‏}‏ عائد إلى ‏{‏سوءاً‏}‏ أي بعد السوء، أي بعد عمله‏.‏ ولك أن تجعله عائداً إلى المصدر المضمون في ‏(‏عَمِلَ‏)‏ مثل ‏{‏اعْدلُوا هُو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏أصلح‏}‏ صيّر نفسه صالحة، أو أصلح عمله بعد أن أساء‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ الله يتوب عليه‏}‏ في سورة ‏[‏المائدة‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وعند قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ الذين تابوا وأصلحوا وبيَّنُوا‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 160‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ فإنَّه غفور رحيم‏}‏ دليل جواب الشرط، أي هو شديد المغفرة والرحمة‏.‏ وهذا كناية عن المغفرة لهذا التائب المصلح‏.‏

وقرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف بكسر همزة ‏{‏فإنَّه غفور رحيم‏}‏ على أنّ الجملة موكَّدة ب ‏{‏إنّ‏}‏ فيعلم أنّ المراد أنّ الله قد غفر لمن تاب لأنَّه كثير المغفرة والرحمة‏.‏ وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب ‏{‏فأنّه‏}‏ بفتح الهمزة على أنَّها ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة أخت ‏(‏إنّ‏)‏، فيكون ما بعدها مؤوّلاً بمصدر‏.‏ والتقدير‏:‏ فغفرانه ورحمته‏.‏ وهذا جزء جملة يلزمه تقدير خبر، أي له، أي ثابت لمن عمل سوءاً ثم تاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

الواو استئنافية كما تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك فتنَّا بعضهم ببعض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 53‏]‏‏.‏ والجملة تذييل للكلام الذي مضى مبتدئاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏‏.‏

والتفصيل‏:‏ التبيين والتوضيح، مشتقّ من الفصل، وهو تفرّق الشيء عن الشيء‏.‏ ولمّا كانت الأشياء المختلطة إذا فُصلت يتبيّن بعضها من بعض أطلق التفصيل على التبيين بعلاقة اللزوم، وشاع ذلك حتَّى صار حقيقة، ومن هذا القبيل أيضاً تسمية الإيضاح تبييناً وإبانة، فإنّ أصل الإبانة القطع‏.‏ والمراد بالتفصيل الإيضاح، أي الإتيان بالآيات الواضحة الدلالة على المقصود منها‏.‏

والآيات‏:‏ آيات القرآن‏.‏ والمعنى نفصّل الآيات ونبيِّنها تفصيلاً مثل هذا التفصيل الذي لا فوقه تفصيل، وهو تفصيل يحصل به علم المراد منها بَيّنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولتستبين‏}‏ عطف على علَّة مقدّرة دلّ عليها قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصّل الآيات‏}‏ لأنّ المشار إليه التفصيل البالغ غاية البيان، فيُعلم من الإشارة إليه أنّ الغرض منه اتِّضاح العلم للرسول‏.‏ فلمَّا كان ذلك التفصيل بهذه المثابة علم منه أنَّه علَّة لشيء يناسبه وهو تبيّن الرسول ذلك التفصيل، فصحّ أن تعطف عليه علّة أخرى من علم الرسول صلى الله عليه وسلم وهي استبانته سبيل المجرمين‏.‏ فالتقدير مثلاً‏:‏ وكذلك التفصيل نفصّل الآيات لتعلم بتفصيلها كنهها، ولتستبين سبيل المجرمين، ففي الكلام إيجاز الحذف‏.‏

وهكذا كلّما كان استعمال ‏(‏كذلك‏)‏ نفعل بعد ذكر أفعال عظيمة صالحاً الفعل المذكور بعد الإشارة لأن يكون علَّة لأمر من شأنه أن يعلّل بمثله صحّ أن تعطف عليه علَّة أخرى كما هنا، وكما في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏ بخلاف ما لا يصلح، ولذلك فإنَّه إذا أريد ذكر علَّة بعده ذكرت بدون عطف، نحو قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏‏.‏

و ‏{‏سبيل المجرمين‏}‏ طريقهم وسيرتهم في الظلم والحسد والكبر واحتقار الناس والتصلّب في الكفر‏.‏

والمجرمون هم المشركون‏.‏ وضع الظاهر موضع المضمر للتنصيص على أنَّهم المراد ولإجراء وصف الإجرام عليهم‏.‏ وخصّ المجرمين لأنَّهم المقصود من هذه الآيات كلِّها لإيضاح خفيّ أحوالهم للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وأبُو جعفر، ويعقوب بتاء مثنّاة فوقية في أول الفعل على أنَّها تاء خطاب‏.‏ والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم

وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بياء الغائب، ثم إنّ نافعاً، وأبا جعفر قرآ ‏{‏سبيل‏}‏ بفتح اللام على أنَّه مفعول ‏{‏تستبين‏}‏ فالسين والتاء للطلب‏.‏ وقرأه البقية برفع اللام على أنَّه فاعل «يستبينَ» أو «تستبينَ»‏.‏ فالسين والتاء ليسا للطلب بل للمبالغة مثل استجاب‏.‏

وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وأبو عَمرو، وحفص، على عاصم برفع ‏{‏سبيل‏}‏ على أنّ تاء المضارعة تاء المؤنَّثة‏.‏ لأنّ السبيل مؤنَّثة في لغة عرب الحجاز، وعلى أنَّه من استبان القاصر بمعنى بَانَ ف ‏{‏سبيل‏}‏ فاعل ‏{‏تستبين‏}‏، أي لتتّضح سبيلهم لك وللمؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى إبطال الشرك بالتبرّئ من عبادة أصنامهم فإنَّه بعد أن أبطل إلهية الأصنام بطريق الاستدلال من قوله ‏{‏قل أغير الله أتّخذ وليّاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أرَأيْتكُم إنْ أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتُم إنْ أخَذَ الله سمعكم وأبصاركم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏ الآية‏.‏ جاء في هذه الآية بطريقة أخرى لإبطال عبادة الأصنام وهي أنّ الله نهى رسوله عليه الصلاة والسلام عن عبادتها وعن اتّباع أهواء عبدتها‏.‏

وبُني ‏{‏نُهيت‏}‏ على صيغة المجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور المراد، أي نهاني الله‏.‏ وهو يتعدّى بحرف ‏(‏عن‏)‏ فحذف الحرف حذفاً مطّرداً مع ‏(‏أنْ‏)‏‏.‏

وأجري على الأصنام اسم الموصول الموضوع للعقلاء لأنَّهم عاملوهم معاملة العقلاء فأتى لهم بما يحكي اعتقادهم، أو لأنَّهم عبدوا الجنّ وبعض البشر فغُلِّب العُقلاء من معبوداتهم‏.‏

ومعنى ‏{‏تدعون‏}‏ تعبدون وتَلْجئُون إليهم في المهمّات، أي تدعونهم‏.‏ و‏{‏مِن دون الله‏}‏ حال من المفعول المحذوف، فعامِلُه ‏{‏تدعون‏}‏‏.‏ وهو حكاية لما غلب على المشركين من الاشتغال بعبادة الأصنام ودعائهم عن عبادة الله ودعائه، حتَّى كأنَّهم عبدوهم دون الله، وإن كانواإنّما أشركوهم بالعبادة مع الله ولو في بعض الأوقات‏.‏ وفيه نداء عليهم باضطراب عقيدتهم إذْ أشركوا مع الله في العبادة من لا يستحقّونها مع أنَّهم قائلون بأنّ الله هو مالك الأصنام وجاعلها شفعاء لكن ذلك كالعدم لأنّ كلّ عبادة توجَّهُوا بها إلى الأصنام قد اعتدوا بها على حقّ الله في أن يَصْرفوها إليه‏.‏

وجملة ‏{‏قل لا أتَّبع أهواءكم‏}‏ استئناف آخر ابتدائي، وقد عدل عن العطف إلى الاستئناف ليكون غرضاً مستقلاً‏.‏ وأعيد الأمر بالقول زيادة في الاهتمام بالاستئناف واستقلاله ليكون هذا النفي شاملاً للاتِّباع في عبادة الأصنام وفي غيرها من ضلالتهم كطلب طرد المؤمنين عن مجلسه‏.‏

والأهواء جمع هَوى، وهو المحبَّة المفرطة‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن اتَّبعتَ أهواءهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 120‏]‏‏.‏ وإنَّما قال‏:‏ لا أتَّبع أهواءكم‏}‏ دون لا أتَّبعكم للإشارة إلى أنَّهم في دينهم تابعون للهوى نابذون لدليل العقل‏.‏ وفي هذا تجهيل لهم في إقامة دينهم على غير أصل متين‏.‏

وجملة ‏{‏قد ضللت إذا‏}‏ جواب لشرط مقدّر، أي إنْ اتَّبعتُ أهواءكم إذَنْ قد ضللتُ‏.‏ وكذلك موقع ‏(‏إذَنْ‏)‏ حين تدخل على فعل غير مستقبل فإنَّها تكون حينئذٍ جواباً لشرط مقدّر مشروط ب ‏(‏إنْ‏)‏ أوْ ‏(‏لوْ‏)‏ مُصرّح به تارة، كقول كُثَيِّر‏:‏

لَئنْ عاد لي عبد العزيز بمثلها *** وأمكنني منها إذَنْ لا أقيلها

ومقدّرٍ أخرى كهذه الآية، وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وتقديم جواب ‏(‏إذن‏)‏ على ‏(‏إذَنْ‏)‏ في هذه الآية للاهتمام بالجواب‏.‏ ولذلك الاهتمام أكّد ب ‏{‏قد‏}‏ مع كونه مفروضاً وليس بواقع، للإشارة إلى أنّ وقوعه محقّق لو تحقّق الشرط المقدّر الذي دلّت عليه ‏(‏إذَنْ‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنا من المهتدين‏}‏ عطف على ‏{‏قد ضَلَلْتُ‏}‏، عطف عليه للدلالة على أنَّه جزاء آخر للشرط المقدّر، فيدلّ على أنَّه إن فعل ذلك يخرج عن حاله التي هو عليها الآن من كونه في عداد المهتدين إلى الكون في حالة الضلال، وأفاد مع ذلك تأكيد مضمون جملة ‏{‏قد ضللت‏}‏ لأنَّه نفَى عن نفسه ضدّ الضلال فتقرّرت حقيقة الضلال على الفرض والتقدير‏.‏

وتأكيد الشيء بنفي ضدّه طريقة عربية قد اهتديتُ إليها ونبَّهت عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد ضلّوا وما كانوا مُهتدين‏}‏ في هذه السورة ‏[‏140‏]‏‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ وأضلّ فرعون قومه وما هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وقد أتي بالخبر بالجار والمجرور فقيل‏:‏ ‏{‏من المهتدين‏}‏ ولم يقل‏:‏ وما أنا مهتد، لأنّ المقصود نفي الجملة التي خبرها ‏{‏من المهتدين‏}‏، فإنّ التعريف في ‏{‏المهتدين‏}‏ تعريف الجنس، فإخبار المتكلم عن نفسه بأنّه من المهتدين يفيد أنَّه واحد من الفئة التي تُعرف عند الناس بفئة المهتدين، فيفيد أنَّه مهتد إفادة بطريقة تشبه طريقة الاستدلال‏.‏ فهو من قبيل الكناية التي هي إثبات الشيء بإثبات ملزومه‏.‏ وهي أبلغ من التصريح‏.‏ قال في «الكشاف» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال إنِّي لِعَمَلِكُمْ من القَالين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 168‏]‏‏:‏ قولك فلان من العلماء أبلغ من قولك‏:‏ فلان عالم، لأنَّك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم ومعروفة مساهمته لهم في العلم‏.‏ وقال عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سواء علينا أوعَظت أم لم تكن من الواعظين‏}‏ في سورة ‏[‏الشعراء‏:‏ 136‏]‏‏.‏ فإن قلت لوقيل‏:‏ أوعظت أو لم تعظ، كان أخصر، والمعنى واحد‏.‏ قلت‏:‏ ليس المعنى بواحد وبينهما فرق لأنّ المراد سواء علينا أفعلتَ هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ومباشرته، فهو أبلغ في قلَّة الاعتداد بوعظه من قوله‏:‏ أم لم تعظ‏.‏ وقال الخفاجي إنّ أصل هذا لابن جنّي‏.‏

ولهذا كان نفي هذا الخبر مفيداً نفي هذه النسبة الكنائية فكانت أبلغيَّتُه في النفي كأبلغيَّته في الإثبات، لأنّ المفاد الكنائي هُو هُو‏.‏ ولذلك فسّره في الكشاف‏}‏ بقوله‏:‏ «وما أنا من الهدى في شيء»‏.‏ ولم يتفطَّن لهذه النكتة بعض الناظرين نقله عنه الطيبي فقال‏:‏ إنَّه لمَّا كان قولك‏:‏ هو من المهتدين، مفيداً في الإثبات أنّ للمخبر عنه حظوظاً عظيمة في الهدى فهو في النفي يُوجِب أن تنفى عنه الحظوظ الكثيرة، وذلك يصدق بأن يبقى له حظّ قليل‏.‏ وهذا سفسطة خفيت عن قائلها لأنَّه إنَّما تصحّ إفادة النفي ذلك لو كانت دلالة المثبَت بواسطة القيود اللفظية، فأمَّا وهي بطريق التكنية فهي ملازمة للفظ إثباتاً ونفياً لأنَّها دلالة عقلية لا لفظية‏.‏ ولذا قال التفتزاني‏:‏ «هو من قبيل تأكيد النفي لا نفي التأكيد» فهو يفيد أنّه قد انسلخ عن هذه الزمرة التي كان معدوداً منها وهو أشدّ من مطلق الاتّصاف بعدم الهدى لأنّ مفارقة المرء فئته بعد أن كان منها أشدّ عليه من اتِّصافه بما يخالف صفاتهم قبل الاتِّصال بهم‏.‏

وقد تقدّم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏، وأحلنا بسطه على هذا الموضع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي انتقل به الكلام من إبطال الشرك بدليل الوحي الإلهي المؤيِّد للأدلَّة السابقة إلى إثبات صدق الرسالة بدليل من الله مؤيِّد للأدلّة السابقة أيضاً، لييأسوا من محاولة إرجاع الرسول عليه الصلاة والسلام عن دعوته إلى الإسلام وتشكيكه في وحيه بقولهم‏:‏ ساحر، مجنون، شاعر، أساطيرُ الأولين، ولييأسوا أيضاً من إدخال الشكّ عليه في صدق إيمان أصحابه، وإلقاء الوحشة بينه وبينهم بما حاولوا من طرده أصحابَه عن مجلسه حين حضور خصومه، فأمره الله أن يقول لهم إنَّه على يقين من أمر رَبِّه لا يتزعزعُ‏.‏ وعطف على ذلك جواب عن شبهة استدلالهم على تكذيب الوعيد بما حلّ بالأمم من قبلهم بأنَّه لو كان صدقاً لعجّل لهم العذاب، فقد كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتِنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ويقولون‏:‏ ‏{‏ربَّنا عجِّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏، فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏قُل لو أنّ عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 58‏]‏، وأكَّد الجملة بحرف التأكيد لأنَّهم ينكرون أن يكون على بيِّنه من ربِّه‏.‏

وإعادة الأمر بالقول لتكرير الاهتمام الذي تقدّم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والبيِّنة في الأصل وصف مُؤنّثُ بَيِّن، أي الواضحة، فهي صفة جرت على موصوف محذوف للعلم به في الكلام، أي دلالة بيِّنة أو حجّة بيِّنة‏.‏ ثم شاع إطلاق هذا الوصف فصار اسماً للحجّة المثبِتة للحقّ التي لا يعتريها شك، وللدلالة الواضحة، وللمعجزة أيضاً، فهي هنا يجوز أن تكون بمعنى الدلالة البيِّنة، أي اليقين‏.‏ وهو أنسب ب ‏{‏على‏}‏ الدالة على التمكّن، كقولهم‏:‏ فلان على بصيرة، أي أنّي متمكِّن من اليقين في أمر الوحي‏.‏

ويجوز أن يكون المراد بالبيِّنة القرآن، وتكون ‏(‏على‏)‏ مستعملة في الملازمة مجازاً مرسلاً لأنّ الاستعلاء يستلزم الملازمة، أي أنِّي لا أخالف ما جاء به القرآن‏.‏

و ‏{‏مِن ربِّي‏}‏ صفة ل ‏{‏بيّنة‏}‏ يفيد تعظيمها وكمالها‏.‏ و‏(‏مِنْ‏)‏ ابتدائية، أي بيّنة جائية إليّ من ربّي، وهي الأدلَّة التي أوحاها الله إليه وجاء بها القرآن وغيرُه‏.‏ ويجوز أن تكون ‏(‏مِنْ‏)‏ اتّصالية، أي على يقين متّصل بربِّي، أي بمعرفته توحيده، أي فلا أتردّد في ذلك فلا تطمعوا في صرفي عن ذلك، أي أنِّي آمنتُ بإله واحد دلَّت على وجوده ووحدانيته دلائل خلقه وقدرته، فأنا موقن بما آمنت به لا يتطرّقني شك‏.‏ وهذا حينئذٍ مسوق مساق التعريض بالمشركين في أنَّهم على اضطراب من أمر آلهتهم وعلى غير بصيرة‏.‏

وجملة ‏{‏وكذّبتم به‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏بيّنة‏}‏‏.‏ وهي تفيد التعجّب منهم أنْ كذّبوا بما دلَّت عليه البيّنة‏.‏

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏إنِّي على بيِّنة من ربِّي‏}‏، أي أنا على بيِّنة وأنتم كذّبتم بما دلَّت عليه البيِّنات فشتَّان بيني وبينكم‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏به‏}‏ يعود إلى البيِّنة باعتبار تأويلها بالبيان أو باعتبار أن ماصْدَقَها اليقين أو القرآن على وجه جَعْل ‏(‏مِنْ‏)‏ ابتدائية، أي وكذّبتم باليقين مكابرة وعناداً، ويعود إلى ربِّي على وجه جعل ‏(‏مِنْ‏)‏ اتِّصالية، أي كنت أنا على يقين في شأن ربّي وكذّبتم به مع أنّ دلائل توحيده بيِّنة واضحة‏.‏ ويعود إلى غير مذكور في الكلام، وهو القرآن لشهرة التداول بينهم في شأنه فإذا أطلق ضمير الغائب انصرف إليه بالقرينة‏.‏

والباء التي عدّي بها فعل ‏{‏كذّبتم‏}‏ هي لتأكيد لصوق معنى الفعل بمفعوله، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فلذلك يدلّ فعل التكذيب إذا عدّي بالباء على معنى الإنكار، أي التكذيب القويّ‏.‏ ولعلّ الاستعمال أنّهم لا يُعدّون فعل التكذيب بالباء إلاّ إذا أريد تكذيب حجّة أو برهان ممّا يحسب سببَ تصديق، فلا يقال‏:‏ كذّبتُ بفلان، بل يقال‏:‏ كذّبت فلاناً قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَمَّا كذبوا الرسل‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 37‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏كذّبت ثمودُ بالنُذُر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والمعنى التعريضيّ بهم في شأن اعتقادهم في آلهتهم باق على ما بيَّنّاه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما عندي ما تستعجلون به‏}‏ استئناف بياني لأنّ حالهم في الإصرار على التكذيب ممّا يزيدهم عناداً عند سماع تسفيه أحلامهم وتنقّص عقائدهم فكانوا يقولون‏:‏ لو كان قولك حقّاً فأين الوعيد الذي تَوعّدتنا‏.‏ فإنّهم قالوا‏:‏ ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏أو تُسْقِط السماء علينا كما زعمت كِسَفا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏ فأمر بأن يجيب أن يقول ‏{‏ما عندي ما تستعجلون به‏}‏‏.‏

والاستعجال طلب التعجيل بشيء، فهو يتعدّى إلى مفعول واحد، وهو المطلوب منه تعجيل شيء‏.‏ فإذا أريد ذكر الأمر المعجّل عدّي إليه بالباء‏.‏ والباء فيه للتعدية‏.‏ والمفعول هنا محذوف دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏ما عندي‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ تستعجلونني به‏.‏ وأمّا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ فالأظهرُ أنّ ضمير الغائب عائد لاسم الجلالة، وسيأتي في أوّل سورة النحل‏.‏

ومعنى ‏{‏ما عندي‏}‏ أنّه ليس في مقدرتي، كما يقال‏:‏ ما بيدي كذا‏.‏ فالعندية مجاز عن التصرّف بالعلم والمقدرة‏.‏ والمعنى‏:‏ أنِّي لست العليم القدير، أي لست إلهاً ولكنّني عبد مرسل أقف عند ما أرسلتُ به‏.‏

وحقيقة ‏(‏عندَ‏)‏ أنَّها ظرف المكان القريب‏.‏ وتستعمل مجازاً في استقرار الشيء لشيء وملكه إيَّاه، كقوله‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وتستعمل مجازاً في الاحتفاظ بالشيء، كقوله‏:‏ ‏{‏وعنده علم الساعة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 85‏]‏ ‏{‏وعند الله مَكْرُهم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 46‏]‏ ولا يحسن في غير ذلك‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما تستعجلون به‏}‏ العذاب المتوعَّد به‏.‏ عبَّر بطريق الموصولية لما تنبئ به الصلة من كونه مؤخّراً مدّخراً لهم وأنّهم يستعجلونه وأنّه واقع بهم لا محالة، لأنّ التعجيل والتأخير حالان للأمر الواقع؛ فكان قوله‏:‏ ‏{‏تستعجلون‏}‏ في نفسه وعيداً‏.‏

وقد دلّ على أنَّه بيد الله وأنّ الله هو الذي يقدّر وقته الذي ينزل بهم فيه، لأنّ تقديم المسند الظرف أفاد قصر القلب، لأنّهم توهّموا من توعّد النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم أنّه توعّدهم بعقاب في مقدرته‏.‏ فجعلوا تأخّره إخلافاً لتوعّده، فردّ عليهم بأنّ الوعيد بيد الله، كما سيصرّح به في قوله‏:‏ ‏{‏إننِ الحكم إلاّ لله‏}‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏إن الحكم إلاّ لله‏}‏ تصريح بمفهوم القصر، وتأكيد له‏.‏ وعلى وجه كون ضمير ‏{‏به‏}‏ للقرآن، فالمعنى كذّبتهم بالقرآن وهو بيِّنة عظيمة، وسألتم تعجيل العذاب تعجيزاً لي وذلك ليس بيدي‏.‏

وجملة ‏{‏يقصّ الحقّ‏}‏ حال من اسم الجلالة أو استئناف، أي هو أعلم بالحكمة في التأخير أو التعجيل‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر ‏{‏يقُصّ‏}‏ بضمّ القاف وبالصاد المهملة فهو من الاقتصاص، وهو اتِّباع الأثر، أي يجري قدره على أثر الحقّ، أي على وفقه؛ أو هو من القصص، وهو الحكاية أي يحكي بالحق، أي أنّ وعده واقع لا محالة فهو لا يخبر إلاّ بالحق‏.‏ و‏{‏الحقّ‏}‏ منصوب على المفعولية به على الاحتمالين‏.‏

وقرأ الباقيون ‏{‏يَقْض‏}‏ بسكون القاف وبضاد معجمة مكسورة على أنَّه مضارع ‏(‏قضى‏)‏، وهو في المصحف بغير ياء‏.‏ فاعتُذر عن ذلك بأنّ الياء حُذفت في الخطّ تبعاً لحذفها في اللفظ في حال الوصل، إذ هو غير محلّ وقف، وذلك ممّا أجري فيه الرسم على اعتبار الوصل على النادر كما كتب ‏{‏سندعُ الزبانيةُ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 18‏]‏‏.‏ قال مكِّي قراءة الصّاد ‏(‏أي المهملة‏)‏ أحبّ إليّ لاتّفاق الحرمييْن ‏(‏أي نافع وابن كثير‏)‏ عليها ولأنَّه لو كان من القضاء للزمت الباء الموحَّدة فيه، يعني أن يقال‏:‏ يقص بالحق‏.‏ وتأويله بأنّه نصب على نزع الخافض نادر‏.‏ وأجاب الزّجاج بأنّ ‏{‏الحقّ‏}‏ منصوب على المفعولية المطلقة، أي القضاء الحقّ، وعلى هذه القراءة ينبغي أن لا يوقف عليه لئلاّ يضطرّ الواقف إلى إظهار الياء فيخالف الرسم المصحفي‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهو خير الفاصلين‏}‏ أي يقصّ ويخبر بالحقّ، وهو خير من يفصل بين الناس، أو يقضي بالحقّ، وهو خير من يفصل القضاء‏.‏

والفصْل يطلق بمعنى القضاء‏.‏ قال عُمر في كتابه إلى أبي موسى «فإنّ فصْل القضاء يورث الضغائن»‏.‏ ويطلق بمعنى الكلام الفاصل بين الحقّ والباطل، والصواب والخطأ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه الحكمة وفصْلَ الخطاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 20‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنَّه لَقَوْل فصْل‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 13‏]‏‏.‏ فمعنى ‏{‏خير الفاصلين‏}‏ يشمل القول الحقّ والقضاء العدل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

استئناف بياني لأنّ قوله‏:‏ ‏{‏ما عندي ما تستعجلون به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 57‏]‏ يثير سؤالاً في نفس السامع أن يقول‏:‏ فلو كان بيدك إنزال العذاب بهم ماذا تصنع، فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏لَو أنّ عندي ما تستعجلون به‏}‏ الآية‏.‏ وإذ قد كان قوله‏:‏ ‏{‏لو أنّ عندي‏}‏ الخ استئنافاً بيانياً فالأمر بأن يقوله في قوة الاستئناف البياني لأنّ الكلام لمَّا بني كلّه على تلقين الرسول ما يقوله لهم فالسائل يتطلّب من الملقّن ماذا سيلقّن به رسوله إليهم‏.‏ ومعنى ‏{‏عندي ما تستعجلون به‏}‏ تقدّم آنفاً، أي لو كان في علمي حكمته وفي قدرتي فعله‏.‏ وهذا كناية عن معنى لَسْتُ إلهاً ولكنَّني عبد أتَّبع ما يوحى إليَّ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لقُضي الأمر بيني وبينكم‏}‏ جواب ‏{‏لو‏}‏‏.‏ فمعنى ‏{‏قضي‏}‏ تمّ وانتهى‏.‏ والأمر مراد به النزاع والخلاف‏.‏ فالتعريف فيه للعهد، وبُني ‏{‏قضي الأمر‏}‏ للمجهول لظهور أنّ قاضيَه هو مَن بيده ما يستعجلون به‏.‏

وتركيب ‏(‏قضي الأمر‏)‏ شاع فجرى مجرى المثل، فحُذف الفاعل ليصلح التمثّل به في كلّ مقام، ومنه قوله‏:‏ ‏{‏قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 41‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة الفصل لقُضيَ بينهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأنذرهم يومَ الحسرة إذ قُضي الأمر‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 39‏]‏؛ ولذلك إذا جاء في غير طريقة المثل يصرّح بفاعله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقَضيْنا إليه ذلك الأمر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وذلك القضاء يحتمل أموراً‏:‏ منها أن يأتيهم بالآية المقتَرَحَة فيؤمنوا، أوْ أن يغضَب فيهلكهم، أو أن يصرف قلوبهم عن طلب ما لا يجيبهم إليه فيتوبوا ويرجعوا‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والله أعلم بالظالمين‏}‏ تذييل، أي الله أعلم منِّي ومن كلّ أحد بحكمة تأخير العذاب وبوقت نزوله، لأنَّه العليم الخبير الذي عنده ما تستعجلون به‏.‏ والتعبير ‏{‏بالظالمين‏}‏ إظهار في مقام ضمير الخطاب لإشعارهم بأنَّهم ظالمون في شركهم إذ اعتدوا على حقّ الله، وظالمون في تكذيبهم إذ اعتدوا على حقّ الله ورسوله، وظالمون في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

عُطف على جملة‏:‏ ‏{‏والله أعلم بالظالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 58‏]‏ على طريقة التخلّص‏.‏ والمناسبة في هذا التخلّص هي الإخبار بأنّ الله أعلم بحالة الظالمين، فإنّها غائبة عن عيان الناس، فالله أعلم بما يناسب حالهم من تعجيل الوعيد أو تأخيره، وهذا انتقال لبيان اختصاصه تعالى بعلم الغيب وسعة علمه ثم سعة قدرته وأنّ الخلق في قبضة قدرته‏.‏ وتقديم الظرف لإفادة الاختصاص، أي عنده لا عند غيره‏.‏ والعندية عندية علم واستئثار وليست عندية مكان‏.‏

والمفاتح جمع مِفْتَح بكسر الميم وهو الآلة التي يفتح بها المغلق، وتسمّى المِفتاح‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنّ مفتح أفصح من مفتاح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه من الكنوز ما إنّ مَفَاتِحَه لتنوء بالعُصْبَة أولي القوة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 76‏]‏‏.‏

والغيب ما غاب على علم الناس بحيث لا سبيل لهم إلى علمه، وذلك يشمل الأعيان لمغيَّبة كالملائكة والجنّ، والأعراض الخفيَّة، ومواقيت الأشياء‏.‏

و ‏{‏مفاتح الغيب‏}‏ هنا استعارة تخييلية تنبني على مكنية بأن شُبِّهت الأمور المغيّبة عن الناس بالمتاع النفيس الذي يُدّخر بالمخازن والخزائن المستوثق عليها بأقفال بحيث لا يعلم ما فيها إلاّ الذي بيده مفاتحها‏.‏ وأثبتت لها المفاتِح على سبيل التخييلية‏.‏ والقرينة هي إضافة المفاتح إلى الغيب، فقوله‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ بمنزلة أن يقول‏:‏ عنده علم الغيب الذي لا يعلمه غيرُه‏.‏

ومفاتح الغيب جَمْع مضاف يعمّ كلّ المغيّبات، لأنّ علمها كلّها خاصّ به تعالى، وأمّا الأمور التي لها أمارات مثل أمارات الأنواء وعلامات الأمراض عند الطبيب فتلك ليْست من الغيب بل من أمور الشهادة الغامضة‏.‏ وغمُوضُها متفاوت والناس في التوصّل إليْها متفاوتون ومعرفتهم بها من قبيل الظنّ لا من قبيل اليقين فلا تسمّى عِلماً، وقيل‏:‏ المفاتح جمع مَفْتَح بفتح الميم وهو البيت أو المخزن الذي من شأنه أن يُغلق على ما فيه ثم يُفْتح عند الحاجة إلى ما فيه، ونقل هذا عن السدّي، فيكون استعارة مصرّحة والمشبَّه هو العلم بالغيب شبّه في إحاطته وحَجبه المغيِّبات ببيت الخزم تشبيه معقول بمحسوس‏.‏

وجملة ‏{‏لا يعلمها إلاّ هو‏}‏ مُبيَّنة لمعنى ‏{‏عندَه‏}‏، فهي بيان للجملة التي قبلها ومفيدة تأكيداً للجملة الأولى أيضاً لرفع احتمال أن يكون تقديم الظرف لمجرّد الاهتمام فأعيد ما فيه طريق مُتَعيِّن كونُه للقصر‏.‏ وضمير ‏{‏يعلمها‏}‏ عائد إلى ‏{‏مفاتح الغيب‏}‏ على حذف مضاف من دلالة الاقتضاء‏.‏ تقديره‏:‏ لا يعلم مكانَها إلاّ هو، لأنّ العلم لا يتعلّق بذوات المفاتح، وهو ترشيح لاستعارة مفاتح الغيب للعلم بالمغيّبات، ونفيُ علم غيره لها كناية عن نفي العلم بما تغلق عليه المفاتح من علم المغيّبات‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏لا يعلمها إلاّ هو‏}‏ أي علماً مستقلاً به، فأمَّا ما أطْلع عليه بعضَ أصفيائه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً إلاّ مَن ارتضى مِن رسول‏}‏

‏[‏الجن‏:‏ 26‏]‏ فذلك علم يحصل لمن أطلعه بإخبار منه فكان راجعاً إلى علمه هو‏.‏ والعلم معرفة الأشياء بكيفية اليقين‏.‏

وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر أنّ رسول يالله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏مفاتح الغيب خمس‏:‏ إنّ الله عندَه علمُ الساعة، ويُنزّل الغيث، ويعلَم ما في الأرحام، وما تدري نفس مَاذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت إنّ الله عليم خبير‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ويعلم ما في البرّ والبحر‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لا يعلمها إلاّ هو‏}‏، أو على جملة ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏، لأنّ كلتيهما اشتملت على إثبات علم لله ونفي علم عن غيره، فعُطفت عليهما هذه الجملة التي دلَّت على إثبات علم لله تعالى، دون نفي علم غيره وذلك علم الأمور الظاهرة التي قد يتوصّل الناس إلى علم بعضها، فعطفُ هذه الجملة على جملة ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ لإفادة تعميم علمه تعالى بالأشياء الظاهرة المتفاوتة في الظهور بعد إفادة علمه بما لا يظهر للناس‏.‏

وظهور ما في البرّ للناس على الجملة أقوى من ظهور ما في البحر‏.‏ وذكر البرّ والبحر لقصد الإحاطة بجميع ما حوته هذه الكرة، لأنّ البرّ هو سطح الأرض الذي يمشي فيه الحيوان غير سابح، والبحر هو الماء الكثير الذي يغمر جزءاً من الأرض سواء كان الماء ملحاً أم عذباً‏.‏ والعرب تسمِّي النهر بحراً كالفرات ودجلة‏.‏ والموصول للعموم فيشمل الذوات والمعاني كلّها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما تسقط من ورقة‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏ويعلم ما في البرّ والبحر‏}‏ لقصد زيادة التعميم في الجزئيات الدقيقة‏.‏ فإحاطة العلم بالخفايا مع كونها من أضعف الجزئيات مؤذن بإحاطة العلم بما هو أعظم أولى به‏.‏ وهذه من معجزات القرآن فإنّ الله علِمَ ما يعتقده الفلاسفة وعلم أنْ سيقول بقولهم من لا رسوخ له في الدين من أتباع الإسلام فلم يترك للتأويل في حقيقة علمه مجالاً، إذ قال‏:‏ ‏{‏وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها ولا حبَّة في ظُلمات الأرض‏}‏ كما سنبيّن الاختيار في وجه إعرابه‏.‏

والمراد بالورقة ورقة من الشّجر‏.‏ وحرف ‏(‏مِنْ‏)‏ زائد لتأكيد النفي ليفيد العموم نصّاً‏.‏ وجملة ‏{‏يعلمها‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏ورقة‏}‏ الواقعة في حيِّز النفي المستغنية بالعموم عن الصفة‏.‏ وذلك لأنّ الاستثناء مفرّغ من أحوال، وهذه الحال حال لازمة بعد النفي حصل بها مع الفعل المنفي الفائدة الاستثناء من عموم الأحوال، أي ما تسقط من ورقة في حالة إلاّ حالة يعلمها‏.‏

والأظهر في نظم قوله‏:‏ ‏{‏وما تسقط من ورقة‏}‏ أن يكون ‏{‏ورقة‏}‏ في محلّ المبتدأ مجرور بِ ‏{‏منْ‏}‏ الزّائدة، وجملة ‏{‏تسْقط‏}‏ صفة ل ‏{‏ورقة‏}‏ مقدّمة عليها فتُعرب حالاً، وجملة ‏{‏إلاّ يعلمها‏}‏ خبر مفرّغ له حرفُ الاستثناء‏.‏ ‏{‏ولا حبّة‏}‏ عطف على المبتدأ بإعادة حرف النفي، و‏{‏في ظلمات الأرض‏}‏ صفة ل ‏{‏حبّة‏}‏، أي ولا حبّة من بذور النبت مظروفة في طبقات الأرض إلى أبعد عمق يمكن، فلا يكون ‏{‏حبَّة‏}‏ معمولاً لفعل ‏{‏تسقط‏}‏ لأنّ الحبَّة التي تسقط لا تبلغ بسقوطها إلى ظلمات الأرض‏.‏

‏{‏ولا رطببٍ ولا يابس‏}‏ معطوفان على المبتدأ المجرور ب ‏{‏من‏}‏‏.‏ والخبر عن هذه المبتدآت الثلاثة هو قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ في كتاب مبين‏}‏ لوروده بعد الثلاثة، وذلك ظاهر وقُوع الإخبار به عن الثلاثة، وأنّ الخبر الأول راجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏من ورقة‏}‏‏.‏

والمراد بالكتاب المبين العلم الثابت الذي لا يتغيّر، وما عسى أن يكون عند الله من آثار العلم من كتابة أو غيرها لم يطلعنا على كنهها‏.‏

وقيل‏:‏ جرّ ‏{‏حبَّة‏}‏ عطف على ‏{‏ورقة‏}‏ مع إعادة حرف النفي، و‏{‏في ظلمات الأرض‏}‏ وصف ل ‏{‏حبّة‏}‏‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولا رطب ولا يابس‏}‏ بالجرّ عطفاً على ‏{‏حبَّة‏}‏ و‏{‏ورقة‏}‏، فيقتضي أنَّها معمولة لفعل ‏{‏تسقط‏}‏، أي ما يَسقط رطب ولا يابس، ومقيَّدة بالحال في وقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ يعلمها‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ في كتاب مبين‏}‏ تأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏إلاُّ يعلمها‏}‏ لأنّ المراد بالكتاب المبين علم الله تعالى سواء كان الكتاب حقيقة أم مجازاً عن الضبط وعدم التبديل‏.‏ وحسَّن هذا التأكيد تجديد المعنى لبعد الأول بالمعطوفات وصفاتها، وأعيد بعبارة أخرى تفنّناً‏.‏

وقد تقدّم القول في وجه جمع ‏{‏ظلمات‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏ في هذه السورة ‏[‏1‏]‏‏.‏ ومبين إمّا من أبان المتعدّي، أي مبين لبعض مخلوقاته ما يريده كالملائكة، أو من أبَانَ القاصر الذي هو بمعنى بان، أي بيّن، أي فصل بما لا احتمال فيه ولا تردّد‏.‏

وقد علم من هاته الآيات عموم علمه تعالى بالكلِّيّات والجزئيّات‏.‏ وهذا متَّفق عليه عند أهل الأديان دون تصريح به في الكتب السابقة وما أعلنه إلاّ القرآن في نحو قوله‏:‏ ‏{‏وهو بكلّ شيء عليم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وفيه إبطال لقول جمهور الفلاسفة أنّ الله يعلم الكلِّيّات خاصّة ولا يعلم الجزئيّات، زعماً منهم بأنَّهم ينزّهون العلم الأعلى عن التجزّي؛ فهم أثبتوا صفة العلم لله تعالى وأنكروا تعلّق علمه بجزئيات الموجودات‏.‏ وهذا هو المأثور عنهم عند العلماء‏.‏ وقد تأوّله عنهم ابن رشد الحفيدُ ونصير الدين الطُوسي‏.‏ وقال الإمام الرازي في «المباحث المشرقية»‏:‏ ولا بدّ من تفصيل مذهب الفلاسفة فإنّ اللائق بأصولهم أن يقال‏:‏ الأمور أربعة أقسام؛ فإنَّها إمَّا أن لا تكون متشكِّلة ولا متغيِّرة، وإمَّا أن تكون متشكّلة غير متغيِّرة، وإمَّا أن تكون متغيِّرة غير متشكّلة؛ وإمَّا أن تكون متشكّلة ومتغيّرة معاً‏.‏ فأمَّا ما لا تكون متشكِّلة ولا متغيِّرة فإنَّه تعالى عالم به سواء كان كليّاً أو جزئياً‏.‏ وكيف يمكن القول بأنَّه تعالى لا يعلم الجزئيّات منها مع اتِّفاق الأكثر منهم على علمه تعالى بذاته المخصوصة وبالعقول‏.‏

وأمّا المتشكِّلة غير المتغيِّرة وهي الأجرام العلوية فهي غير معلومة له تعالى بأشخاصها عندهم، لأنّ إدراك الجسمانيات لا يكون إلاّ بالآت جسمانية‏.‏

وأمّا المتغيِّرة غير المتشكّلة فذلك مثل الصور والأعراض الحادثة والنفوس الناطقة، فإنَّها غير معلومة له لأنّ تعلّقها يحوج إلى آلة جسمانية بل لأنَّها لمّا كانت متغيّرة يلزم من تغيّرها العلم‏.‏

وأمّا ما يكون متشكِّلاً ومتغيِّراً فهو الأجسام الكائنة الفاسدة‏.‏ وهي يمتنع أن تكون مُدْركة له تعالى للوجهين ‏(‏أي المذكورين في القسمين الثاني والثالث‏)‏ اه‏.‏

وقد عُدّ إنكار الفلاسفة أنّ الله يعلم الجزئيَّات من أصول ثلاثة لهم خالفت المعلوم بالضرورة من دين الإسلام‏.‏ وهي‏:‏ إنكار علم الله بالجزئيَّات؛ وإنكار حشر الأجساد، والقول بقدم العالم‏.‏ ذكر ذلك الغزالي في «تهافت الفلاسفة» فمن يوافقهم في ذلك من المسلمين يعتبر قوله كفراً، لكنَّه من قبيل الكفر باللازم فلا يعتبر قائله مرتدّاً إلاّ بعد أن يوقف على ما يفضي إليه قولُه ويأبى أن يرجع عنه فحينئذٍ يستتاب ثلاثاً فإن تاب وإلاّ حكم بردّته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

عطف جملة ‏{‏وهو الذي يتوفَّاكم‏}‏ على جملة ‏{‏وما تسقط من ورقة إلاّ يعلمها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ انتقالاً من بيان سعة علمه إلى بيان عظيم قدرته لأنّ ذلك كلَّه من دلائل الإلهية تعليماً لأوليائه ونعياً على المشركين أعدائه‏.‏ وقد جرت عادة القرآن بذكر دلائل الوحدانية في أنفس الناس عقب ذكر دلائلها في الآفاق فجمع ذلك هنا على وجه بديع مؤذن بتعليم صفاته في ضمن دليل وحدانيته‏.‏ وفي هذا تقريب للبعث بعد الموت‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يتوفَّاكم‏}‏ صيغة قصر لتعريف جزأي الجملة، أي هو الذي يتوفَّى الأنفس دون الأصنام فإنَّها لا تملك موتاً ولا حياة‏.‏

والخطاب موجه إلى المشركين كما يقتضيه السياق السابق من قوله‏:‏ ‏{‏لَقُضي الأمر بيني وبينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 58‏]‏ واللاحق من قوله ‏{‏ثم أنتم تشركون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 64‏]‏ ويقتضيه طريق القصر‏.‏ ولمَّا كان هذا الحال غير خاصّ بالمشركين علم منه أنّ الناس فيه سواء‏.‏

والتوفّي حقيقته الإماتة، لأنَّه حقيقة في قبض الشيء مستوفى‏.‏ وإطلاقه على النوم مجاز لشبه النوم بالموت في انقضاع الإدراك والعمل‏.‏ ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يتوفَّى الأنفسَ حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمَّى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال الله يا عيسى إنِّي متوفِّيك‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ يتوفَّاكم‏}‏ ينيمكم بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏ثم يبعثكم فيه‏}‏، أي في النهار، فأراد بالوفاة هنا النوم على التشبيه‏.‏ وفائدته أنّه تقريب لكيفية البعث يوم القيامة، ولذا استعير البعث للإفاقة من النوم ليتمّ التقريب في قوله‏:‏ ‏{‏ثم يبعثكم فيه‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏جرحتم‏}‏ كسبتم، وأصل الجرح تمزيق جلد الحيّ بشيء محدّد مثل السكين والسيف والظُفُر والناب‏.‏ وتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 45‏]‏‏.‏ وأطلق على كلاب الصيد وبزاته ونحوها اسمُ الجوارح لأنَّها تجرح الصيد ليُمسكه الصائد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما عَلَّمتم من الجوارح مكلِّبين‏}‏ وتقدّم في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 4‏]‏‏.‏ كما سمَّوها كواسب، كقول لبيد‏:‏

غُضْفا كَواسبَ ما يُمَنّ طَعَامُها *** فصار لفظ الجوارح مرادفاً للكواسب؛ وشاع ذلك فأطلق على الكسب اسم الجرح، وهو المراد هنا‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ويعلم ما جرحتم بالنهار‏}‏ معترضة لقصد الامتنان بنعمة الإمهال، أي ولولا فضله لما بعثكم في النهار مع علمه بأنَّكم تكتسبون في النهار عبادة غيره ويكتسب بعضكم بعض ما نهاهم عنه كالمؤمنين‏.‏

ووقع الاقتصار على الإخبار بعلمه تعالى ما يكسب الناس في النهار دون الليل رعياً للغالب، لأنّ النهار هو وقت أكثر العمل والاكتساب، ففي الإخبار أنّه يعلم ما يقع فيه تحذير من اكتساب ما لا يرضَى الله باكتسابه بالنسبة للمؤمنين، وتهديد للمشركين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ثم يبعثكم فيه‏}‏ معطوفة على ‏{‏يتوفَّاكم بالليل‏}‏ فتكون ‏(‏ثُمّ‏)‏ للمهلة الحقيقية، وهو الأظهر‏.‏ ولك أن تجعل ‏(‏ثم‏)‏ للترتيب الرتبي فتعطف على جملة ‏{‏ويعلم ما جرحتم‏}‏؛ أي وهو يعلم ما تكتسبون من المناهي ثم يردّكم ويمهلكم‏.‏ وهذا بفريق المشركين أنسب‏.‏

و ‏(‏في‏)‏ للظرفية‏.‏ والضمير للنهار‏.‏ والبعثُ مستعار للإفاقة من النوم لأنّ البعث شاع في إحياء الميّت وخاصّة في اصطلاح القرآن ‏{‏قالوا أئذا متنا وكنَّا تراباً وعظاماً أإنَّا لمبعوثون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 82‏]‏ وحسَّن هذه الاستعارة كونها مبنية على استعارة التوفِّي للنوم تقريباً لكيفية البعث التي حارت فيها عقولهم، فكلّ من الاستعارتين مرشِّح للأخرى‏.‏

واللاّم في ‏{‏ليقضى أجل مُسمّى‏}‏ لام التعليل لأنّ من الحكم والعلل التي جعل الله لها نظام اليقظة والنوم أن يكون ذلك تجزئة لعُمُر الحي، وهو أجله الذي أجِّلت إليه حياته يومَ خلقه، كما جاء في الحديث «يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله» فالأجل معدود باللأيام والليالي، وهي زمان النوم واليقظة‏.‏ والعلَّةُ التي بمعنى الحكمة لا يلزم اتِّحادها فقد يكون لِفعل الله حِكَم عديدة‏.‏ فلا إشكال في جَعل اللاّم للتعليل‏.‏

وقضاء الأجل انتهاؤه‏.‏ ومعنى كونه مُسمَّى أنَّه معيَّن محدّد‏.‏ والمرجع مصدر ميمي، فيجوز أن يكون المراد الرجوع بالموت، لأنّ الأرواح تصير في قبضة الله ويبطل ما كان لها من التصرّف بإرادتها‏.‏ ويجوز أن يكون المراد بالرجوع الحشر يوم القيامة، وهذا أظهر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُم يُنَبّئكم بما كنتم تعملون‏}‏ أي يحاسبكم على أعمالكم بعد الموت، فالمهلة في ‏(‏ثم‏)‏ ظاهرة، أو بعد الحشر، فالمهلةُ لأنّ بين الحشر وبين ابتداء الحساب زمناً، كما ورد في حديث الشفاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وهو الذي يتوفَّاكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏، وتقدّم تفسير نظيره آنفاً‏.‏ والمناسبة هنا أنّ النوم والموت خلقهما الله فغلبا شِدّة الإنسان كيفما بلغت فبيَّن عقب ذكرهما أنّ الله هو القادر الغالب دون الأصنام‏.‏ فالنوم قهر، لأنّ الإنسان قد يريد أن لا ينام فيغلبه النوم، والموت قهر وهو أظهر، ومن الكلم الحق‏:‏ سبحان من قهر العباد بالموت‏.‏

‏{‏وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏ويرسل‏}‏ عطف على ‏{‏القاهر‏}‏، فيعتبر المسند إليه مقدّماً على الخبر الفعلي، فيدلّ على التخصيص أيضاً بقرينة المقام، أي هو الذي يرسل عليكم حفظة دون غيره‏.‏ والقصر هنا حقيقي، فلا يستدعي ردّ اعتقاد مُخالف‏.‏ والمقصود الإعلام بهذا الخبر الحقّ ليحذر السامعون من ارتكاب المعاصي‏.‏

ومعنى ‏(‏على‏)‏ في قوله ‏{‏عليكم‏}‏ الاستعلاء المجازي، أي إرسال قهر وإلزام، كقوله‏:‏ ‏{‏بعثنا عليكم عباداً لنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏، لأنّ سياق الكلام خطاب للمشركين كما علمتَ، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلاّ بل تكذّبون بالدِّين وإنّ عليكم لحافظين‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏

و ‏{‏عليكم‏}‏ متعلِّق بِ ‏{‏يرسل‏}‏ فعلم، أنّ المراد بحفظ الحفظة الإحصاء والضبط من قولهم‏:‏ حفظتُ عليه فعله كذا‏.‏ وهو ضدّ نسيَ‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعندنا كتاب حفيظ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وليس هو من حفظ الرعاية والتعهّد مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حافظات للغيب بما حفظ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 34‏]‏‏.‏

فالحفظة ملائكة وظيفتهم إحصاء أعمال العباد من خير وشرّ‏.‏ وورد في الحديث الصحيح‏:‏ «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» الحديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إذا جاء أحدَكم الموت‏}‏ غاية لما دلّ عليه اسم الحفظة من معنى الإحصاء، أي فينتهي الإحصاء بالموت، فإذا جاء الوقت الذي ينتهي إليه أجل الحياة توفَّاه الملائكة المرسلون لقبض الأرواح‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏رسلُنا‏}‏ في قوّة النكرة لأنّ المضاف مشتقّ فهو بمعنى اسم المفعول فلا تفيده الإضافة تعريفاً، ولذلك فالمراد من الرسل التي تتوفَّى رسلٌ غيرُ الحفظة المرسلين على العباد، بناء على الغالب في مجيء نكرة عقب نكرة أنّ الثانية غيرُ الأولى‏.‏ وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏توفّته رُسُلنا‏}‏ أنّ عدداً من الملائكة يتولّى توفّي الواحد من الناس‏.‏ وفي الآية الأخرى ‏{‏قل يَتوفَّاكم مَلَك الموت الذي وُكِّل بكم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏، وسمِّي في الآثار عزرائيلَ، ونقل عن ابن عباس‏:‏ أنّ لِملك الموت أعواناً‏.‏ فالجمع بين الآيتين ظاهر‏.‏

وعُلِّق فعل التوفِّي بضمير ‏{‏أحدكم‏}‏ الذي هو في معنى الذات‏.‏ والمقصود تعليق الفعل بحال من أحوال أحدكم المناسب للتَّوفي، وهو الحياة، أي توفَّت حياتَه وختمتْها، وذلك بقبض روحه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏توفَّته‏}‏ بمثناة فوقية بعد الفاء‏.‏ وقرأ حمزة وحده ‏{‏توفّاه رسلنا‏}‏ وهي في المصحف مرسومة بنتْأة بعد الفاء فتصلح لأن تكون مثناة فوقية وأن تكون مثناة تحتية على لغة الإمالة‏.‏ وهي التي يرسم بها الألفات المنقلبة عن الياءات‏.‏

والوجهان جائزان في إسناد الفعل إلى جمع التكسير‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وهم لا يفرّطون‏}‏ حال‏.‏ والتفريط‏:‏ التقصير في العمل والإضاعة في الذوات‏.‏ والمعنى أنَّهم لا يتركون أحداً قد تمّ أجله ولا يؤخّرون توفّيَه‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏رُدّوا‏}‏ عائد إلى ‏{‏أحد‏}‏ باعتبار تنكيره الصادق بكلّ أحد، أي ثمّ يُردّ المتوفَّوْن إلى الله‏.‏ والمراد رجوع الناس إلى أمر الله يوم القيامة، أي ردّوا إلى حكمه من نعيم وعذاب، فليس في الضمير التفات‏.‏

والمولى هنا بمعنى السيد، وهو اسم مشترك يطلق على السيد وعلى العبد‏.‏

و ‏{‏الحقّ‏}‏ بالجرّ صفة ل ‏{‏مولاهم‏}‏، لما في ‏{‏مولاهم‏}‏ من معنى مالكهم، أي مالكهم الحقّ الذي لا يشوب مِلكه باطلٌ يُوهن ملكه‏.‏ وأصل الحقّ أنَّه الأمر الثابت فإن كلّ ملك غير ملك الخالقية فهو مشوب باستقلال مملوكه عنه استقلالاً تفاوتاً، وذلك يُوهن المِلك ويضعف حقّيّته‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ألا لَهُ الحكمُ وهو أسرع الحاسبين‏}‏ تذييل ولذلك ابتدئ بأداة الاستفتاح المؤذنة بالتنبيه إلى أهمية الخبر‏.‏ والعرب يجعلون التذييلات مشتملة على اهتمام أو عموم أو كلام جامع‏.‏

وقدّم المجرور في قوله ‏{‏له الحكم‏}‏ للاختصاص، أي له لا لغيره، فإن كان المراد من الحكم جنس الحكم فقصره على الله إمَّا حقيقي للمبالغة لعدم الاعتداد بحكم غيره، وإمَّا إضافي للردّ على المشركين، أي ليس لأصنامكم حكم معه، وإن كان المراد من الحكم الحساب، أي الحكم المعهود يوم القيامة، فالقصر حقيقي‏.‏ وربَّما ترجَّح هذا الاحتمال بقوله عقبه‏:‏ ‏{‏وهو أسرع الحاسبين‏}‏ أي ألاَ له الحساب، وهو أسرع من يحاسب فلا يتأخَّر جزاؤه‏.‏

وهذا يتضمَّن وعداً ووعيداً لأنَّه لمَّا أتي بحرف المهلة في الجمل المتقدّمة وكان المخاطبون فريقين‏:‏ فريق صالح وفريق كافر، وذكر أنَّهم إليه يرجعون كان المقام مقام طماعية ومخالفة؛ فالصالحون لا يحبّون المهلة والكافرون بعكس حالهم، فعُجِّلت المسرّة للصالحين والمساءة للمشركين بقوله‏:‏ ‏{‏وهو أسرع الحاسبين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي‏.‏ ولمَّا كان هذا الكلام تهديداً وافتتح بالاستفهام التقريري تعيَّن أنّ المقصود بضمائر الخطاب المشركون دون المسلمين‏.‏ وأصرح من ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنتم تشركون‏}‏‏.‏

وإعادة الأمر بالقول للاهتمام، كما تقدّم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتِكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏ الآية‏.‏ والاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك‏.‏

والظلمات قيل على حقيقتها، فيتعيَّن تقدير مضاف، أي من إضرار ظلمات البرّ والبحر، فظلمات البرّ ظلمة الليل التي يلتبس فيها الطريق للسائر والتي يخشى فيها العدوّ للسائر وللقاطن، أي ما يحصل في ظلمات البرّ من الآفات‏.‏ وظلمات البحر يخشى فيها الغرق والضلال والعدوّ‏.‏ وقيل‏:‏ أطلقت الظلمات مجازاً على المخاوف الحاصلة في البرّ والبحر، كما يقال‏:‏ يوم مُظلم إذا حصلت فيه شدائد‏.‏ ومن أمثال العرب ‏(‏رأى الكواكب مُظْهِراً‏)‏، أي أظلم عليه يومه إظلاماً في عينيه لما لاقاه من الشدائد حتَّى صار كأنَّه ليل يرى فيه الكواكب‏.‏ والجمع على الوجهين روعي فيه تعدّد أنواع ما يعرض من الظلمات، على أنَّنا قدّمنا في أوّل السورة أنّ الجمع في لفظ الظلمات جَرى على قانون الفصاحة‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏تدعونه‏}‏ حال من الضمير المنصوب في ‏{‏يُنَجِّكُمْ‏}‏‏.‏

وقرئ ‏{‏من ينجِّيكم‏}‏ بالتشديد لنافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبي جعفر، وخلف‏.‏ وقرأه يعقوب بالتخفيف‏.‏

والتضرّع‏:‏ التذلّل، كما تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏لعلَّهم يتضرّعون‏}‏ في هذه السورة ‏[‏42‏]‏‏.‏ وهو منصوب على الحال مؤوّلاً باسم الفاعل‏.‏ والخفية بضم الخاء وكسرها ضد الجهر‏.‏ وقرأه الجمهور بضم الخاء‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم بكسر الخاء وهو لغة مثل أسوة وإسوة‏.‏ وعطف خفية‏}‏ على ‏{‏تضرّعاً‏}‏ إمَّا عطف الحال على الحال كما تعطف الأوصاف فيكون مصدراً مؤوّلاً باسم الفاعل، وإما أن يكون عطف المفعول المطلق على الحال على أنَّه مبيّن لنوع الدعاء، أي تدعونه في الظلمات مخفين أصواتكم خشية انتباه العدوّ من النّاس أو الوحوش‏.‏

وجملة ‏{‏لئِن أنجيتنا‏}‏ في محلّ نصب بقول محذوف، أي قائلين‏.‏ وحذف القول كثير في القرآن إذا دلَّت عليه قرينة الكلام‏.‏ واللام في ‏{‏لئن‏}‏ الموّطئة للقسم، واللام في ‏{‏لَنكوننّ‏}‏ لام جواب القسم‏.‏ وجيء بضمير الجمع إمَّا لأنّ المقصود حكاية اجتماعهم على الدعاء بحيث يدعو كلّ واحد عن نفسه وعن رفاقه‏.‏ وإمَّا أريد التعبير عن الجمع باعتبار التوزيع مثل‏:‏ ركِبَ القوم خَيْلَهم، وإنَّما ركب كلّ واحد فَرَساً‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أنجيتنا‏}‏ بمثناة تحتية بعد الجيم ومثناة فوقية بعد التحتية‏.‏ وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي وخلف ‏{‏أنجانا‏}‏ بألف بعد الجيم والضمير عائد إلى ‏{‏مَنْ‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏قل من ينجيّكم‏}‏‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هذه‏}‏ إلى الظلمة المشاهدة للمتكلِّم باعتبار ما ينشأ عنها، أو باعتبار المعنى المجازي وهو الشدّة، أو إلى حالة يعبّر عنها بلفظ مؤنّث مثل الشدّة أو الورطة أو الربْقة‏.‏

والشاكر هو الذي يراعي نعمة المنعم فيحسن معاملته كلّما وجد لذلك سبيلاً‏.‏ وقد كان العرب يرون الشكر حقَّاً عظيماً ويعيّرون من يكفر النعمة‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏من الشاكرين‏}‏ أبلغ من أن يقال‏:‏ لنكوننَّ شاكرين، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين‏}‏ ‏[‏لأنعام‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قل الله ينجيكم منها‏}‏ تلقين لجواب الاستفهام من قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ يُنجّيكم‏}‏ أن يُجيب عن المسؤولين، ولذلك فصلت جملة ‏{‏قل‏}‏ لأنَّها جارية مجرى القول في المحاورة، كما تقدّم في هذه السورة‏.‏ وتولَّى الجواب عنهم لأنّ هذا الجواب لا يسعهم إلاّ الاعتراف به‏.‏

وقدّم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة الاختصاص، أي الله ينجيكم لا غيره، ولأجل ذلك صرّح بالفعل المستفهم عنه‏.‏ ولولا هذا لاقتصر على ‏{‏قل الله‏}‏‏.‏ والضمير في ‏{‏منها‏}‏ للظلمات أو للحادثة‏.‏ وزاد ‏{‏مِنْ كلّ كرب‏}‏ لإفادة التعميم، وأنّ الاقتصار على ظلمات البرّ والبحر بالمعنيين لمجرّد المثال‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وهشام عن ابن عامر، ويعقوب ‏{‏يُنجيكم‏}‏ بسكون النون وتخفيف الجيم على أنَّه من أنجاه، فتكون الآية جمعت بين الاستعمالين‏.‏ وهذا من التفنّن لتجنّب الإعادة‏.‏ ونظيره ‏{‏فمهِّل الكافرين أمْهِلْهُم‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو جعفر، وخلف، وعاصم، وحمزة، والكسائي ‏{‏يُنجِّيكم‏}‏ بالتشديد مثل الأولى‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنتم تشركون‏}‏ للترتيب الرتبي لأنّ المقصود أنّ إشراكهم مع اعترافهم بأنَّهم لا يلجأون إلاّ إلى الله في الشدائد أمر عجيب، فليس المقصود المهلة‏.‏

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لمجرّد الاهتمام بخبر إسناد الشرك إليهم، أي أنتم الذين تتضرّعون إلى الله باعترافكم تُشركون به من قَبل ومن بعد، من باب ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏، ومن باب‏:‏ لو غيرُك قالها، ولو ذاتُ سِوار لَطَمَتْنِي‏.‏

وجيء بالمسند فعلاً مضارعاً لإفادة تجدّد شركهم وأنّ ذلك التجدّد والدوامَ عليه أعجب‏.‏

والمعنى أنّ الله أنجاكم فوعدتم أن تكونوا من الشاكرين فإذا أنتم تشركون‏.‏ وبيْن ‏{‏الشاكرين‏}‏ و‏{‏تشركون‏}‏ الجناس المحرّف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏‏.‏

استئناف ابتدائي عُقّب به ذكرُ النعمة التي في قوله‏:‏ ‏{‏قل من يُنجّيكم‏}‏ بذكر القدرة على الانتقام، تخويفاً للمشركين‏.‏ وإعادة فعل الأمر بالقول مثل إعادته في نظائره للاهتمام المبيَّن عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 40‏]‏‏.‏ والمعنى قل للمشركين، فالمخاطب بضمائر الخطاب هم المشركون‏.‏ والمقصود من الكلام ليس الإعلام بقدرة الله تعالى فإنَّها معلومة، ولكن المقصود التهديد بتذكيرهم بأنّ القادر من شأنه أن يُخاف بأسُه فالخبر مستعمل في التعريض مجازاً مرسلاً مركّباً، أو كناية تركيبية‏.‏ وهذا تهديد لهم، لقولهم ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربِّه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وتعريف المسند والمسند إليه أفاد القصر، فأفاد اختصاصه تعالى بالقدرة على بعث العذاب عليهم وأنّ غيره لا يقدر على ذلك فلا ينبغي لهم أن يخشوا الأصنام، ولو أرادوا الخير لأنفسهم لخافوا الله تعالى وأفردوه بالعبادة لمرضاته، فالقصر المستفاد إضافي‏.‏ والتعريف في ‏{‏القادر‏}‏ تعريف الجنس، إذ لا يقدر غيره تعالى على مثل هذا العذاب‏.‏

والعذاب الذي من فوق مثل الصواعق والريح، والذي من تحت الأرجل مثل الزلازل والخسف والطوفان‏.‏

و ‏{‏يلبسكم‏}‏ مُضارع لَبَسَه بالتحريك أي خلطه، وتعدية فعل ‏{‏يلبسكم‏}‏ إلى ضمير الأشخاص بتقدير اختلاط أمرهم واضطرابه ومَرجه، أي اضطراب شؤونهم، فإنّ استقامة الأمور تشبه انتظام السلك ولذلك سمَّيت استقامة أمور الناس نظاماً‏.‏ وبعكس ذلك اختلال الأمور والفوضى تشبه اختلاط الأشياء، ولذلك سمّي مَرَجاً ولَبْساً‏.‏ وذلك بزوال الأمن ودخول الفساد في أمور الأمّة، ولذلك يقرن الهَرْج وهو القتل بالمَرْج، وهو الخلط فيقال‏:‏ هم في هَرْج ومَرْج، فسكون الراء في الثاني للمزاوجة‏.‏

وانتصب ‏{‏شِيَعاً‏}‏ على الحال من الضمير المنصوب في ‏{‏يَلْبِسَكم‏}‏‏.‏ والشيَع جمع شيعة بكسر الشين وهي الجماعة المتَّحدة في غرض أو عقيدة أو هوى فهم متّفقون عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيَاً لست منهم في شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏‏.‏ وشيعة الرجل أتباعه والمقتدون به قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّ من شيعته لإبراهيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 83‏]‏ أي من شيعة نوح‏.‏

وتشتّت الشيع وتعدّد الآراء أشدّ في اللبس والخلط، لأنّ اللبس الواقع كذلك لبس لا يرجى بعده انتظام‏.‏

وعطف عليه ‏{‏ويذيق بعضَكم بأس بعض‏}‏ لأنّ من عواقب ذلك اللبس التقاتل‏.‏ فالبأس هو القتل والشرّ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وسرابيل تقيكم بأسكم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏‏.‏ والإذاقة استعارة للألم‏.‏

وهذا تهديد للمشركين كما قلنا بطريق المجاز أو الكناية‏.‏ وقد وقع منه الأخير فإنّ المشركين ذاقوا بأس المسلمين يومَ بدر وفي غزوات كثيرة‏.‏

في «صحيح البخاري» عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ ‏"‏ لما نزلتْ ‏{‏قُلْ هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم‏}‏ قال رسول صلى الله عليه وسلم أعوذُ بوجهك‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏أوْ من تحت أرجلكم‏}‏ قال‏:‏ أعوذ بوجهك قال‏:‏ ‏{‏أو يلبِسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض‏}‏ قال رسول الله‏:‏ هذا أهون، أو هذا أيسر ‏"‏

اه‏.‏ واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك خشية أن يعمّ العذاب إذا نزل على الكافرين مَن هو بجوارهم من المسلمين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّقُوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ وفي الحديث قالوا‏:‏ «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث» وفي الحديث الآخر «ثم يُحْشَرُون على نيّاتهم» ومعنى قوله‏:‏ هذه أهون، أنّ القتل إذا حلّ بالمشركين فهو بيد المسلمين فيلحق المسلمين منه أذى عظيم لكنَّه أهون لأنَّه ليس فيه استئصال وانقطاع كلمة الدين، فهو عذاب للمشركين وشهادة وتأييد للمسلمين‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لا تتمنَّوا لقاء العدوّ واسألوا الله العافية» وبعض العلماء فسّر الحديث بأنَّه استعاذ أن يقع مثل ذلك بين المسلمين‏.‏ ويتَّجه عليه أن يقال‏:‏ لماذا لم يستعذ الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع ذلك بين المسلمين، فلعلّه لأنه أوحي إليه أنّ ذلك يقع في المسلمين، ولكن الله وعده أن لا يسلِّط عليهم عدوّاً من غير أنفسهم‏.‏ وليست استعاذته بدالة على أنّ الآية مراد بها خطاب المسلمين كما ذهب إليه بعض المفسّرين، ولا أنَّها تهديد للمشركين والمؤمنين، كما ذهب إليه بعض السلف؛ إلاّ على معنى أنّ مفادها غيرَ الصريح صالح للفريقين لأنّ قدرة الله على ذلك صالحة للفريقين، ولكن المعنى التهديدي غير مناسب للمسلمين هنا‏.‏ وهذا الوجه يناسب أن يكون الخبر مستعملاً في أصل الإخبار وفي لازمه فيكون صريحاً وكناية ولا يناسب المجاز المركّب المتقدّم بيانه‏.‏

‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الايات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

استئناف وردَ بعد الاستفهامين السابقين‏.‏ وفي الأمر بالنظر تنزيل للمعقول منزلة المحسوس لقصد التعجيب منه، وقد مضى في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 50‏]‏

وتصريف الآيات تنويعها بالترغيب تارة والترهيب أخرى‏.‏ فالمراد بالآيات آيات القرآن‏.‏ وتقدّم معنى التصريف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون‏}‏ في هذه السورة ‏[‏46‏]‏‏.‏

‏{‏ولعلّهم يفقهون‏}‏ استئناف بياني جواب لسؤال سائل عن فائدة تصريف الآيات، وذلك رجاء حصول فهمهم لأنَّهم لعنادهم كانوا في حاجة إلى إحاطة البيان بأفهامهم لعلَّها تتذكَّر وترعوي‏.‏

وتقدّم القول في معنى ‏(‏لعلّ‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لعلّكم تتّقون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وتقدّم معنى الفقه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 67‏]‏

‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏انظر كيف نُصَرّفُ الآيات‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، أي لعلَّهم يفقهون فلم يفقهوا وكذّبوا‏.‏ وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى العذاب في قوله ‏{‏على أن يبعث عليكم عَذَاباً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏، وتكذيبهم به معناه تكذيبهم بأنّ الله يعذّبهم لأجل إعراضهم‏.‏

والتعبير عنهم ب ‏{‏قومك‏}‏ تسجيل عليهم بسوء معاملتهم لمن هو من أنفسهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القُرْبى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏، وقال طرفة‏:‏

وظُلْمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً *** على المرْء من وقْع الحُسام المهنّدِ

وتقدّم وجه تعدية فعل ‏(‏كذّب‏)‏ بالباء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذّبتم به‏}‏ في هذه السورة ‏[‏57‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وهو الحقّ‏}‏ معترضة لقصد تحقيق القدرة على أن يبعث عليهم عذاباً الخ‏.‏

وقد تحقّق بعض ذلك بعذاببٍ من فوقهم وهو عذاب القحط، وبإذاقتهم بأس المسلمين يوم بدر‏.‏

ويجوز أن يكون ضمير به عائداً إلى القرآن، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏وكذّب به‏}‏ رجوعاً بالكلام إلى قوله ‏{‏قل إنِّي على بيِّنة من ربِّي وكذّبتم به‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 57‏]‏، أي كذّبتم بالقرآن، على وجه جعل ‏(‏مِنْ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من ربِّي‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 57‏]‏ ابتدائية كما تقدّم، أي كذّبتم بآية القرآن وسألتم نزولَ العذاب تصديقاً لرسالتي وذلك ليس بيدي‏.‏ ثم اعتُرض بجمل كثيرة‏.‏ أولاها‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏، ثم ما بعده من التعريض بالوعيد، ثم بنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكذّب به قومك وهو الحقّ‏}‏ فكأنّه قيل‏:‏ قل إنّي على بيّنة من ربّي وكذّبتم به وهو الحقّ قُل لست عليكم بوكيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قل لست عليكم بوكيل‏}‏ إرغام لهم لأنَّهم يُرُونَه أنَّهم لمَّا كذّبوه وأعرضوا عن دعوته قد أغاظوه، فأعلمهم الله أنَّه لا يغيظه ذلك وأنّ عليه الدعوة فإذا كانوا يُغيظون فلا يغيظون إلاّ أنفسهم‏.‏

والوكيل هنا بمعنى المدافع الناصر، وهو الحفيظ‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا حسبُنا الله ونعم الوكيل‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏

وتعديته ب ‏(‏على‏)‏ لتضمنّه معنى الغلبة والسلطة، أي لست بقيِّم عليكم يمنعكم من التكذيب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 48‏]‏‏.‏ وجملة ‏{‏لكلّ نبأ مستقرّ‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنّ قوله ‏{‏وهو الحق‏}‏ يثير سؤالهم أن يقولوا‏:‏ فمتى ينزل العذاب‏.‏ فأجيبوا بقوله‏:‏ ‏{‏لكلّ نبأ مستقرّ‏}‏‏.‏

والنبأ‏:‏ الخبر المهم، وتقدّم في هذه السورة‏.‏ فيجوز أن يكون على حقيقته، أي لكلّ خبر من أخبار القرآن، ويجوز أن يكون أطلق المصدر على اسم المفعول، أي لكلّ مخبَر به، أي ما أخبِروا به من قوله‏:‏ ‏{‏أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏ الآية‏.‏

والمستقرّ وقت الاستقرار، فهو اسم زمانِه، ولذلك صيغ بوزن اسم المفعول، كما هو قياس صوغ اسم الزمان المشتقّ من غير الثلاثي‏.‏ والاستقرار بمعنى الحصول، أي لكلّ موعود به وقت يحصل فيه‏.‏ وهذا تحقيق للوعيد وتفويض زمانه إلى علم الله تعالى‏.‏ وقد يكون المستقرّ هنا مستعملاً في الانتهاء والغاية مجازاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس تجري لمستقرّ لها‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 38‏]‏، وهو شامل لوعيد الآخرة ووعيد الدنيا ولكلَ مستقرّ‏.‏ وعن السّدّي‏:‏ استقرّ يوم بدر ما كان يَعِدهم به من العذاب‏.‏

وعطف ‏{‏سوف تعلمون‏}‏ على جملة ‏{‏لكلّ نبأ مستقرّ‏}‏ أي تعلمونه، أي هو الآن غير معلوم وتعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم‏.‏ وهذا أظهر في وعيد العذاب في الدنيا‏.‏